ضحايا النظامين :الإنسانية و الظلم و العدالة
لدينا فرضية شبه غريزية بان التجربة التي
بمر بها الضحية يفترض أن تنمي فيه الحصانة في وجه الخيانة و التقاعس و الجهر بالحق
كيفما كانت النتائج و خلاصة القول ستنمي
فيه هذه التجربة المرة و الاليمة ، المناعة (الطبيعية و المكتسبة) في وجه الشر. وهو سيعمل بكل ما أوتي من قوة بكل إحساساته بالجروح لمنع الآخرين من أن يخوضوا
نفس التجربة التي اجتازها .
هذا افتراض على سبيل الجدل جد متفائل ورومانسي
في الحقيقة لا صلة له بالتجربة الانسانية المعاشة لدى ضحايا النظامين 1985-2003.
فهو (أي الافتراض) يتجاهل مثلا الحاجة الانسانية
لدى الضحايا للثأر. و هذا شيئ مفهوم لا لبس فيه : نحن
الضحايا نريد لمن تسبب لنا بالمعاناة أن يعاني.
نحن نريد لمن مس باعزائنا (عائلاتنا ) ان يشهد
هو أيضا تجربة الفقدان ، و تجربة الحرمان ،و
تجربة انعدام الوسيلة للدفاع عن انفسنا ضد
أخطار يوضعونها أمامك كسيف مسلط على الرقبة والبؤس الذي شعرنا به على امتداد الفصول و
السنوات .
هذا لا يرتبط بالرغبة في التربية أو
التسامح ، و لا حتى بالمعاقبة من أجل منع الشر
في المستقبل. هذا يرتبط بفهم عميق جدا، كامن جدا، للعدل التماثلي. ‘العين بالعين، السن
بالسن’. و الضحايا ما كانوا بادئين أو متأخرين ،بل أنهم اتخذوا الموقف السلبي المثالي للضحية المقهور ،فقط عروا عن ظهورهم و
تركوا السياط تنزل فوق اللحم و العظم ،في انتظار أن يتعب الجلاد و يرحل ..ليأتي
جلاد أرحم منه .
و الضرر الذين سيحدثونه شيء ليس بالمهم
في نظرهم وأضرار التحبيط و التيئيس التي سينزلون بها على المعلم لا تهم . و
يتعامون ان يكون لها تأثير على عائلات الضحايا على الانسان و المواطن الصغير :الطفل .
مع الاسف هناك من الزملاء من يلقي
دائما ظلم السلطات التعليمية و مقدميها و شيوخها على الاطفال و يرفع ذلك الشعار
الثوري جدا "في غياب الدمقراطية و العدل كل شيء وارد " و من يسمع هذا
الشعار يظن انه العصيان القادم ضد الوزارات و النقابات ، لكن العصيان الوحيد الذي
يمارسه هو انصرافه و انشغاله عن تعليم الطفل بداعي الظلم ...هل هناك ظلم أكبر من
الظلم الذي يمارسه هو على الطفل ؟
وحتى الطفل الذي لا يعرف ماذا يجري له ،لو أحس
بالظلم لقال في عفوية . انه يريد الثأر،. ويا له من تصرف جد إنساني. وما هو الإنساني
؟ الإنساني هو الخوف. الإنساني هو الرغبة بأن لا يحصل هذا لك الظلم و الحيف . الإنساني هو أن لا تعرف لماذا ينتقمون منك و
من روحك و من جسدك . و لا عزاء لك أبدا، مهما كان الثمن الذي يدفعه الآخرون فهم لن
يعوضوك عن ما فات من مباهج الحياة التي جئت من أجلها و ما ضاع منك في الطريق و أنت على أعتاب التقاعد
، و لن يعوضونك عن سنوات في فرعيات خارج
الزمن ، و لن يعوضوا حق أطفالك في الدراسة و المنحة و العطل و الكسرة و
الدواء ...
المال لا يعوض هذه الأشياء ، و يستحيل
أن يمنحك تعويضا عن ليالي طويلة من العمر المشرد و من المستحيل ان يعيد اليك ما
نهبوه منك من فرح و طمأنينة .
الإنساني هو التفكير بان الجور و الظلم
الذي اصابوك به يدخل في حساب ما غير مكتوب
من الحقوق والواجبات، ليس بصفتك موظف لدى
الدولة فقط وكن بصفتك صانع مستقبلها و الساهر على عدم اندثارها
بمدنيتها و قوانينها و مؤسساتها .
والآن مسموح لك أن تكون إنسانيا اقل وليس أكثر، حساسا
أقل وليس أكثر .
أنتم، أيها التلاميذ الذين مررتم بأمور أقل فظاعة تهتفون
نحونا: كيف حصل أنكم لم تصبحوا معلمين أفضل
منا ؟ نحن لسنا معلمين أفضل لان تجربتنا
في السبعينات و الثمانينات لم تقنع الوزارة بمقدميها و شيوخها لان نكون معلمين أفضل أو
متساوون و ذلك أضعف الإيمان .
المعلمون المضروبون تمسكوا بالصبر و الكياسة و لم يتحولوا و لو مرة إلى
ضاربين .
المعلمون الذين وقع عليهم الظلم الكبير لا
يستنتجون منه استنتاجات كونية. فهم يريدون للظلم الذي أحيق بهم أن يصلح. يريدون أن
تتبدد مخاوفهم. يشعرون بالمرارة والغضب. يريدون أن يشعروا بأمان .
وبقدرة على النظر إلى المؤسسة بعطف و احترام , يريدون أن يعاملوا بما يليق من احترام لأنبل مهمة في الحياة .و
هذا سيكون امتيازا للعدل و الديمقراطية للناس كلهم . و لمجتمع لم يشهد ضررا عميقا كمجتمعات عربية. و سيكون تعبيرا عن إعادة الثقة بالنفس، عن الوفرة في الأفكار و
الحلول ، و عن القدرة على تلبية حاجيات المواطنين الآخرين انطلاقا من المعرفة التي لا غنى عن
المعلم لبنائها ..
ولكن وضع الضحية ليس فقط تعبيرا عن الصدمة.
فهو يمنحها كثير من الفضائل. يمنح الضحية الحق في تجاهل احتياجات
الأخر (نقابة و وزارة و جمعيات مدنية و تأطيرات
تربوية ...) يمنح الضحية الحق إلى الابتعاد عن هذه المجموعات التسلطية . ومن
الطبيعي جدا أن يسد الأذان عن سماع النقد أو
اللوم بل حتى المديح .
فللواقع تحت ضحية الظلم (المذبحة، التمييز، الاحتلال
،القمع ) يوجد دائما له ذلك الشعور الإنساني ، الحق في إيقاع الظلم على الآخرين
الذين تسببوا في ظلمك ، و هنا لا نمس الأبرياء، و ليس هناك من شيء أخلاقي غير إحقاق
و إقرار العدل . وللمفارقة، فان القرارات الأخيرة و الإصلاحات المرافقة
لها بدأت تقضم شيئا فشيئا من كيان التعليم :و ربما سنشهد في كل فترة قصيرة من الزمن تخريج أفواج جدد من الضحايا .و لا عجب إنهم قسمونا إلى فئات حتى
صار لكل فئة ( كارثة خاصة بها).و لا عجب ان تبلقنت خارطة
الضحايا إلى مجموعات صغيرة ،و كل مجموعة يقودها الرعاة و المستشهرين .
الوزارة
و النقابة حينما يجتمعان يتجردان من الإحساس بمشاعر الضحايا .دائما ما تكون النية
الى إدامة مشكل الضحايا و حتى مع مرور السنوات و ثقل الاتهامات و الصراخات
المتكررة كل هذا لم يغير موقفهم من هذا الظلم .و أن تراكمات الظلم الذي أحيق بالضحايا لم يجعل الوزارة و النقابة أكثر حساسية للظلم ، فلا زالوا يتلاعبون
بالضحايا و يستأثرون بمصيرهم و حتى و هم يدركون جيدا أنهم من أوقع بهم الظلم .
و نحن جد غارقين في
احساسنا بالضحية ، بحيث أننا نجد صعوبة في أن نرى المسببون و المسؤولون عن الإحساس الذي يشوه لنا حياتنا و تفكيرنا؛ ليس فقط في مواضيع الأخلاق و
العدالة و الوطنية ، بل وأيضا في القرارات العملية جدا مثل التربية و التعليم . فالحاجة
الملحة الآن يجب أن نقنع أنفسنا أننا لسنا
ضحايا . و نتبرأ من الآخر بأننا لن نكون أبدا ضحاياه بعد اليوم .و ان نفكر الى ما هو
ابعد من الشعور بالاهانة، الخوف ، والألم .
في وقاحة و صلف نادرين ،كنا ممنوعين من
جميع التوافقات التي حدثت بعد سنة 1985 .أدخل ملفنا إلى أرشيف النسيان الجد متعمد
.و كان هناك من وضع اللبنات الأساسية لاحتقار
النزاهة المهنية للضحايا .
و كان الكل يخرس و يسكت و يبتلع لسانه النقابي .لماذا ؟ بكل
بساطة هذي هي قواعد اللعبة التي قرروها . و إن هذا الضحية و هو في الغالب ضعيف
أعزل بلا سلاح نقابي يجب أن يظل على هذا الوضع .و هم عودوه على طعنه في الظهر. حتى
غيروا سلوكه . و أصبح متقبلا لما يحدث له ، فهو حتى و لو صرخ سيضطر إلى ضبط نفسه
في الأخير و ان لم يفعل فلنا في الصفوف من يضبطه .و حتى في أحسن الحالات لن يدافع
عن نفسه إلا بلغة ركيكة ضعيفة او نقابية مستهلكة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق